:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يونيو 25، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • كتب الروائي الأمريكي جون شتاينبك ذات مرّة أن هناك قصّة واحدة في العالم تخيفنا وتلهمنا، حتى أننا نعيش في دوّامة من التفكير والتساؤل المستمر. وأضاف: البشر عالقون - في حياتهم، في أفكارهم، في جوعهم وطموحاتهم، في جشعهم وقسوتهم، وفي لطفهم وكرمهم أيضا - في شبكة من الخير والشرّ. وأعتقد أن هذه هي القصّة الوحيدة التي لدينا، وهي تحدث على جميع مستويات الشعور والذكاء".
    ويضيف: كانت الفضيلة والرذيلة نسيج وعينا الأوّل، وستكون نسيج وعينا الأخير، بغضّ النظر عن أيّ تغييرات قد نفرضها على النهر والجبل، على الاقتصاد والأخلاق. لا توجد قصّة أخرى. الإنسان، بعد أن ينفض غبار حياته، لن يكون لديه سوى الأسئلة الصعبة والواضحة: هل كانت خيرا أم شرّا؟ هل أحسنتُ أم أسأت؟
    ثم يتحدّث الكاتب عن الانطباع الذي يتركه موت إنسان في أذهان الناس ويقول إنه في عصرنا، إذا كان الشخص الميّت قد امتلك ثروة ونفوذا وسلطة وكلّ ما يثير الحسد، وبعد أن يقيِّم الأحياء ممتلكاته ومكانته وأعماله وآثاره، فإن السؤال الذي يثار هو: هل كانت حياته طيّبة أم شرّيرة؟ هل سيحزن الناس لفقده أم يفرحون؟
    ثم يذكر شتاينبك قصّة وفاة ثلاثة أشخاص كان أحدهم من أغنى الناس، وقد شقّ طريقه نحو الثراء بصعوبة بالغة، وقضى سنوات طويلة يحاول استعادة ما فقده من حبّ. وأثناء ذلك قدّم للعالم خدمات جليلة قد تكون تعويضا عن مساوئ صعوده. لكن لمّا أُعلن خبر وفاته، تلقّاه الجميع تقريبا بسرور. وقال العديد منهم: الحمد لله على وفاة هذا النذل!".
    أما الشخص الثاني فكان رجلا ذكيّا كالشيطان ويفتقر إلى إدراك الكرامة الإنسانية وعلى إلمام تام بكلّ جانب من جوانب ضعف الإنسان وشرّه، فاستخدم معرفته الخاصّة لتشويه الناس وشراء ذممهم بالرشوة والتهديد والإغواء وألبس دوافعه رداء الفضيلة، حتى وجد نفسه في منصب عظيم. وعندما مات هذا الرجل، دوّت بين الناس صيحات الشكر لله على ذلك وفرحوا كثيرا بموته.
    أما الشخص الثالث فقد يكون ارتكب أخطاء كثيرة، لكنه كرَّس حياته لبناء رجال شجعان وكرام وصالحين في زمن كانوا فيه فقراء وخائفين، مع بروز قوى شرّيرة في العالم تستغلّ تلك المخاوف. وكان هذا الرجل مكروها من قِبل القلّة. وعندما مات، انفجر الناس بالبكاء في الشوارع وعلت أصواتهم: ماذا عسانا فاعلون الآن وكيف نستمرّ بدونه؟".
    ويعلّق شتاينبك على ذلك بالقول: في أوقات عدم اليقين، يلجأ البشر، بسبب ضعفهم، إلى حبّ الخير ومحبّة الآخرين. ويبدو أنه إذا اضطررنا للاختيار بين شيئين، فعلينا أن نتذكّر موتنا ونحاول أن نعيشه بحيث لا يجلب متعة لأحد."
  • ❉ ❉ ❉

  • كونك شخصا غير أناني قد يدفع الآخرين لاعتبار هذه نقطة ضعف، ومن ثم استغلالك. لذا لا يجب أن نخجل من التصرّف وفقاً لمصالحنا الذاتية في المقام الأوّل. وهذا ليس خطأ أو عيبا، ولكن الوصمة الاجتماعية المرتبطة بكلمة "الأنانية" جعلتها تبدو وكأنها أمر سيّئ أو ذميم.
    غالبا الشخص الأناني لم يعش طفولته ولم يكن له والدان يساعدانه على تلبية احتياجاته وكان كلّ شخص في المنزل منشغلا بنفسه، لذا اضطرّ الشخص لأن يناضل ويتعب من أجل ما يريده. وللحصول على ما يحتاجه، تعلّمَ أن ينتزعه قبل أن يأخذه شخص آخر وفهمَ أن الآخرين لن يساعدوه وأنهم منافسون محتملون له.
    أما الشخص اللاأناني المنكر لذاته والمجامل للآخرين فربّما يكون قد عانى من نقص في تقدير الذات في طفولته. والآباء كثيراً ما يقولون لأطفالهم: توقّفوا عن الأنانية وفكّروا في الآخرين". لكن هذه النصيحة او الرسالة قد تؤدّي إما إلى اعتقاد الطفل بأن احتياجات الآخرين أكثر أهميّة من احتياجاته، وإما الى رفضه الاهتمام بنفسه لأنه تعلّم أن الأنانية خصلة سيّئة ومستهجنة.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في قديم الزمان، لم يكن الشاي معروفا خارج الصين. لكن شيئا فشيئا، انتشرت سمعته كـ "مشروب سماويّ" عبر طريق الحرير إلى مختلف الممالك الواقعة على ذلك الطريق. في إحدى تلك الممالك، واسمها إنجا، سمع الملك شائعات عن المشروب السحري وأراد أن يتأكّد عمّا إذا كان مثل هذا الشيء موجودا فعلا، فقرّر إرسال سفراء له إلى إمبراطور الصين، طالبا منه الإذن بتذوّق هذا المشروب بنفسه.
    وذهب مبعوثو الملك في رحلة طويلة على طريق الحرير إلى الصين، ووصلوا أخيرا إلى بوّابات قصر الإمبراطور، حيث سُمح لهم بالدخول وحظوا بمقابلة الامبراطور شخصيّا واستمع منهم الى المهمّة التي جاؤوا من أجلها. كان الامبراطور صامتا طوال حديثهم. ولم يرغب في أن يكلّم سفراء تلك المملكة الضئيلة، بل أشار إلى وزرائه بأن يُدخلوا الضيوف إلى قاعة فخمة أخرى مجهّزة بالطاولات، حيث قُدّم لهم المشروب الغامض. وجلس الضيوف على طاولات منخفضة، وبدأوا يتذوقّون الشاي بأنفسهم، ثم قالوا لبعضهم البعض: هذا شراب رائع حقّا، منشّط ومريح في آن!
    شعر مبعوثو ملك إنجا بالرضا التام لنجاح مهمّتهم وبدأوا رحلة العودة الطويلة إلى أرض الوطن. لكنهم فضّلوا أوّلا أن يستقطعوا بعضا من وقتهم لاستكشاف الصين. فتوقّفوا في أماكن مختلفة لمشاهدة المعالم السياحية وتذوّق المأكولات المحلية. لكنهم سرعان ما اكتشفوا أثناء ذلك شيئا أزعجهم: كان جميع الناس الذين قابلوهم يشربون الشاي، الغنيّ والفقير، الملك والمواطن العادي!
    وعندما عادوا الى أرض الوطن سألهم ملكهم عمّا إذا كانوا قد نجحوا في مهمّتهم، فأجابوا بتردّد: نعم ولكن.. فسألهم: لكن ماذا؟! قالوا: لقد وصلنا إلى قصر إمبراطور الصين وقُدّم لنا ذلك الشيء المسمّى الشاي. لكنّنا نظنّ بأنهم ربّما سخِروا منّا وقرّروا عدم تقديم الشاي الحقيقي لنا. فقد اكتشفنا لاحقاً أن هذا المشروب نفسه كان يقدَّم في جميع أنحاء الصين، للفلّاحين والملوك على السواء!"
    في بلد آخر على طريق الحرير، كان يعيش فيلسوف عظيم؛ أعظم فيلسوف في تلك النواحي، وكان اهتمامه وتخصّصه الوحيد الشاي. كان يفكّر فيه باستمرار ويجمع المعلومات عنه من المسافرين ويدوّن كلّ ما يسمعه في دفتر ملاحظاته. قال بعض من التقاهم إنه ورق شجر وقال آخرون إنه سائل. وقال البعض إنه مشروب أخضر اللون وقال آخرون إنه ذهبي. قال البعض إنه حلو، بينما قال آخرون إنه مرّ. ومع مرور الوقت، جمع هذا الفيلسوف أكبر ذخيرة من المعلومات في العالم عن الشاي وكتب أطروحة موثّقة عنه، وأصبح هو نفسه أشهر مرجع في الشاي على الاطلاق. لكنه لم يتذوّقه قط!
    وفي بلد ثالث، تمكّنوا من الحصول على كيس شاي واحد! وفي يوم معلوم من أيّام السنة، كانوا يربطون ذلك الكيس الصغير من أوراق الشاي المجفّفة بأربعة خيوط إلى عامودين يحملهما أربعة رجال لهم وجوه متجهّمة. كانوا يحملون الكيس بوقار طقوسي على اكتافهم ويطوفون به شوارع العاصمة. وفي ذلك اليوم، اعتاد جميع سكّان المدينة أن يغادروا أعمالهم ويخرجوا من منازلهم ليشهدوا ذلك الموكب الجليل. وعندما يمرّ كيس الشاي المقدّس من أمامهم، يركعون ويخرّون له ساجدين في خوف ورهبة.
    واستمرّ ذلك التقليد المقدّس لسنوات طوال، إلى أن حلّ بالعاصمة زائر غريب في نفس يوم الموكب المهيب، ووقف الرجل يراقب سكّان المدينة وهم يسجدون أمام كيس الشاي. فضحك بصوت عالٍ وقال: لا يا أغبياء! يجب أن تصبّوا الماء المغليّ عليه!" وانطلقت صيحة عظيمة من وسط الحشود. والتفت الكهنة ذوو الوجوه العابسة المنهمكون بحمل كيس الشاي إلى الرجل الغريب بغضب. ثم بنظرة وإشارة سريعة، أمروا الشرطة بالقبض على الرجل "عدوّ الدين الذي اقترح إتلاف الشاي المقدّس"! وألقى الجنود فورا القبض على الرجل وأُعدم بأبشع طريقة.
    لكن لحسن الحظ، قبل تلك الحادثة المؤسفة، كان الرجل قد أفشى سرّ الشاي لبعض أصدقائه في المدينة وترك لهم بعض أوراق النبات التي أحضرها معه في رحلته. لكن بعد أن رأوا ما حدث لصديقهم، حرصوا الآن على ألا يرتكبوا نفس غلطته بالحديث عن نقع الشاي بالماء المغلي أو شربه. وعندما كانوا يجتمعون سرّا لفعل ذلك، كانوا إذا سألهم أحد عن نوع الشاي الذي يشربونه يجيبون ببساطة أنه نوع من الدواء.
    وبهذه الطريقة، ازدادوا حكمة إلى أن قال أحكمهم يوما: من ذاق عرف، ومن لم يذق لم يعرف. كفّوا عن الحديث عن "الشراب السماوي"، واكتفُوا بتقديمه في ولائمكم. من يعجبه سيطلب المزيد ومن لا يعجبه فهو لا يصلح لشرب الشاي. أغلقوا باب الجدل وافتحوا مقهى التجربة."
    وهكذا أصبحت هذه الدائرة من شاربي الشاي السرّيين أوّل تجّار للشاي في العالم. ولأنهم كانوا متجوّلين ويبيعون الأقمشة والمجوهرات أيضا، فقد كانوا يحملون الشاي معهم أينما سافروا على طول طريق الحرير. وحيثما توقّفوا، كانوا يُخرجون قليلا منه ويحضّرونه ويعرضونه على كلّ من يأتي إليهم. وكانت تلك بداية محلات "الشاي خانة" أو بيوت الشاي التي انتشرت في جميع أنحاء آسيا الوسطى وروّجت للاستخدام الحقيقيّ للشاي على نطاق واسع.

  • Credits
    steinbeck.stanford.edu
    inayatisufism.org

    الاثنين، يونيو 23، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • كان بيتهوڤن يضع على مكتبه دائما كتباً لبلوتارك وهوميروس وأوفيد وأبيكتيتوس ويقضي وقتا في قراءتها. واستمرّ يفعل هذا حتى عندما كان على فراش مرضه الأخير. في عصره، كانت ڤيينا تعيش حالة من "الحضارة اليونانية". وكان من عادته عندما يكون لوحده أن يسلّي نفسه بقراءة اليونانيين القدماء. وكان مُلِمّا بالأدب والفلسفة الإغريقية منذ صباه، كما كان على علم بالفلسفة الرواقية القديمة، وبخاصّة كتابات أبيكتيتوس. وكان هذا الأخير يرى أن الأهواء لا تنشأ إلا من عدم تحقّق رغباتنا، ما يفسح المجال للاضطرابات والأمراض النفسية ويتسبّب في حزن الإنسان وشعوره بالاستياء من الغير، وبالتالي عجزه عن الاستماع إلى العقل.
    وكان حلّ بيتهوفن لمشكلة الأهواء يشكل تحديّا. وقد أدرك أن ضبط النفس هو أحد الجوانب التي يجب عليه تحسينها. كما رفض هوس الرغبات المادّية ونأى بنفسه عن الترف والبذخ. ذات مرّة ذهب مع بعض أصدقائه لتناول الغداء في مطعم. ولما لاحظ كثرة الطعام على المائدة قال: لماذا كلّ هذه الأطباق؟ هذا طعام كثير، من سيأكله؟! إن الإنسان لا يرتقي فوق مستوى الحيوانات الأخرى إذا كانت ملذّاته الرئيسية تنحصر في الطعام والشراب فقط".
  • ❉ ❉ ❉

  • أثناء محاضرة عن الغرب الأمريكي والأمريكيين الأصليين، ذكر الأستاذ أن الأوربّيين كانوا يصفون السكّان الأصليين "بالهمج" لأساليبهم "البدائية" في القتال وسرقتهم فروة الرأس. وتساءل: كيف يكون الاوربّيون أقلّ همجية وهم قادرون على قتل إنسان بإحداث ثقب صغير في جسده وإنهاء حياته؟!" في ذلك الوقت، كان رصاص البنادق يسبّب أضرارا داخلية مروّعة وتسمّماً للجسم.
    واستعاد الأستاذ كلاما بليغا للزعيم الهندي پونتياك عندما قال عن المستعمرين الأوربيين: لقد جاؤوا ومعهم الكتاب المقدّس، فسرقوا أرضنا وسحقوا أرواحنا. والآن يقولون لنا إنه يجب علينا أن نشكر الربّ على خلاصنا!".
    وشبيه بكلام پونتياك قول الزعيم الافريقي جومو كينياتا: عندما وصل المبشّرون الاوربيون الى بلادنا، كنّا نملك الأرض وكان لدى المبشّرين الكتاب المقدّس. وقد علّمونا كيف نصلّي وأعيننا مغمضة. وعندما فتحناها، وجدناهم تركوا لنا الكتاب المقدّس وأخذوا الأرض!". وفي كلا الحالتين، كان الاوربّيون يحملون الإنجيل بيد وبالأخرى البندقية. وحيث فشل الأوّل، أثبت الثاني فعاليته.
    وما يثير الفضول حقّا هو طريقة تعامل الڤايكنغ مع السكّان الأصليين عندما وصلوا الى القارّة لأوّل مرّة. يقول بعض هنود أمريكا الشمالية الذين تواصلوا مع الڤايكنغ لأوّل مرّة أن كلّ ما فعلوه هو مقايضة الأسلحة بلُباب الخشب، ثم رحلوا بسلام. كانوا أكثر سلميةً من الأوربيين الآخرين برغم ما يقال عن توحشّهم، أما من يُفترض أنهم متحضّرون فقد كانوا الأكثر قتلا وتدميرا.
  • ❉ ❉ ❉

  • الملاك الجديد "أو أنجيلوس نوڤوس" هو اسم هذه اللوحة التي رسمها الفنّان السويسري الألماني بول كلي عام 1920. وقد اشتراها صديق الفنّان، الناقد والفيلسوف الألماني ڤالتر بنيامين. وعندما اضطرّ الأخير للفرار من ألمانيا عام ١٩٣٣، أخذ اللوحة معه إلى المنفى في باريس. وعندما غزا النازيون فرنسا، قرّر بنيامين الهرب من هناك مجدّدا وعهد باللوحة، مع أوراق مهمّة أخرى، إلى الكاتب جورج باتاي الذي أخفاها في المكتبة الوطنية في باريس حيث كان يعمل. وقد قُبض على بنيامين على الحدود الإسبانية، وانتحر في سبتمبر 1940.
    وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سلّم باتاي الصورة طبقا لوصيّة بنيامين الأخيرة إلى باحث بارز في التصوّف اليهودي كان قد هاجر من ألمانيا إلى فلسطين عام 1923. وتُظهر اللوحة ما يُفترض أنه ملاك يحدّق بفم مفتوح في شيء مزعج محاولا الابتعاد عنه. وكان ڤالتر بنيامين قد استشهد باللوحة في مقالة فلسفية له، واصفا التاريخ باعتباره "دورة لا تتوقّف من اليأس والحطام".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • لكلّ كاتب مسرحيّ رؤيته الخاصّة عن أوديسيوس بطل ملحمة "الأوديسّا". البعض يرونه بطلاً ذكيّاً فحسب. لكن يوريپيديس يقدّم عنه نسخة أكثر قتامة وتعقيداً ويميل إلى تصويره كشخصية ميكاڤيللية بدائية، بينما يميل سوفوكليس أكثر إلى ذكر عيوبه المأساوية.
    يبدو أن يوريپيديس كان أكثر تشكّكا في الطبيعة البشرية. وهو يرى المأساة شيئا إلهيّا تقريبا، بينما يراها سوفوكليس نتيجة ضعف بشريّ وأنظمة معيبة. سوفوكليس كتب في ذروة قوّة أثينا، بينما شهد يوريپيديس بداية انهيارها. وفي اليونان وحتى اليوم، تُدرّس الأوديسّا في الصف السابع، على يسار الكتاب النصّ الأصلي لهوميروس وعلى يمينه النسخة اليونانية الحديثة. دائما هناك شيء خالد في إعادة سرد الأساطير وإعادة صياغتها.
  • ❉ ❉ ❉

  • بعض المجتمعات تعتبر تمجيد الأسلاف طقسا قبوريّاً ووثنيّاً، ومع ذلك فهي مهووسة بعلم الأنساب والأصل والفصل، ويمكن لبعض العائلات في تلك المجتمعات أن تتعقّب تاريخ أسلافها إلى ما قبل مئات الأعوام، لكنها لا تستطيع أن تخبرك أين كان أطفالها الليلة الماضية! هذه المجتمعات تنكر تكريم الموتى وتأنف من كلّ ما يذكّر بهم، وفي المقابل هناك من يرى أن تذكُّر الأسلاف عمل مشرّف وواجب، وهو ممارسة قائمة منذ فجر التاريخ. لذا عندما تضع بعض المجتمعات الأزهار على قبور موتاها، لا غرابة أنها تشعر بالارتباط، ليس بهم فحسب، بل بأجيال من البشر الذين رحلوا عن هذه الحياة وعانوا من التجاهل والنسيان. يقول حكيم صيني قديم إن نسيان الأسلاف هو بمثابة "أن تكون جدولا بلا منبع وشجرة بلا جذور".
  • ❉ ❉ ❉

  • النقطة الأساسية في رواية "المحاكمة" لكافكا هي أنه لا يوجد سبب لاعتقال بطلها جوزيف ك، ولا سبب لمحاكمته، باستثناء جعله يذعن ويعاني. والرواية نفسها تبدأ بهذه العبارة: لا بدّ أن شخصا ما كان يلفّق الأكاذيب عن جوزيف ك، لأنه -دون أن يرتكب أيّ خطأ- قُبض عليه في صباح يوم جميل".
    وفكرة الكتاب هي أنه حتى لو لم تشعر بأنك مذنب، فربّما تصبح مذنبا حتى لو ثبتت براءتك في محكمة قانونية. فهذا لا يؤكّد إدانتك فحسب، بل يؤكّد أيضا إدانة النظام القانوني الذي وجدك بريئاً! كتابات كافكا تشير إلى الطبيعة التعسّفية لإساءة استخدام السلطة. فإن كنت تشعر بأنك مضطهد من قبل سلطة تكرهك ولا يقلقها أنها شرّيرة، فأنت تنتمي إلى عالم كافكا.
  • ❉ ❉ ❉

  • يشير الكاتب الإيطالي جيانلوكا ديدينو الى أن الرومانسية المبكّرة كانت فلسفة متطرّفة قامت على تمسّك شبه متعصّب بقيم الفرد وولاء لعالمه الخاص، وهو ما كان غالبا يودي بحياة أتباعها. وقد مات العديد من الرومانسيين الأوائل في سنّ مبكّرة، أو أظهروا ميلاً لتدمير الذات لم يشاهَد في حركات ثقافية مماثلة في أوروبّا. أمّا من نجوا، فقد عاشوا حياة صعبة. حتى الحبّ، كما اعتقدَ الرومانسيون الأوائل، لا بدّ أن يكون مؤلما كي يكون حقيقيّا.
    ويضيف أنه من أجل إضفاء طابع رومانسيّ على العالم، آمن الرومانسيون بأنه يجب أن تبقى الآفاق البعيدة بعيدة إلى الأبد، والرغبات غير المشبعة كذلك إلى الأبد. ولم يكن الموت في سنّ مبكّرة مجرّد حادث أو نتيجة حياة عاشها الإنسان بسرعة وشقاء، بل كان جزءا أساسيا من المشروع الرومانسي. فقد مات كيتس وبوليدوري في الخامسة والعشرين من عمرهما، ونوڤاليس في الثامنة والعشرين، وشيلي في التاسعة والعشرين، واللورد بايرون في السادسة والثلاثين.
    كان الرومانسيون، بحسب الكاتب، يؤمنون بأنه ما من سبيل أفضل ولا أسمى من الموت عندما تفشل في تحقيق آمالك أو تطلّعاتك البعيدة. وليس من قبيل الصدفة أن يضِلّ أولئك الذين لم يموتوا في شبابهم طريقهم وينتهي بهم الأمر إلى الجنون أو الفقر أو التعصّب أو انعدام الأهمية.

  • Credits
    beethoven.de
    paulklee.net

    السبت، يونيو 21، 2025

    معطف لشتاء هذا العالم


    ذات مرّة، وصف ناقد روسي قصّة "المعطف" لنيكولاي غوغول، المنشورة عام ١٨٤٢، بأنها أفضل قصّة كتبها إنسان على الإطلاق! وبالتأكيد هي أفضل ما كتبه غوغول". كما وصف الروائي الأمريكي الروسي فلاديمير نابوكوف "المعطف" بأنها "أعظم قصّة روسية قصيرة كُتبت على الإطلاق".
    كان غوغول يتمتّع بروح دعابة رائعة وذكاء حادّ، وكان له أسلوبه الخاص والمميّز والساخر في الكتابة. تولستوي ودوستويفسكي كانا يقدّران عمله كثيرا، كما كان هو المعلّم لجميع الروائيين الروس الذين أتوا بعده. وهناك عبارة أصبحت شائعة في الأدب الروسي تقول: لقد خرجنا جميعا من تحت معطف غوغول". وغالبا ما تُنسب إلى دوستويفسكي، إلا أن آخرين يعزونها الى تورغينيف.
    تروي "المعطف" قصّة حياة وموت أكاكي باشماشكين، وهو كاتب حكومي فقير يعمل في العاصمة الروسية آنذاك سان بطرسبورغ. كان أكاكي راضيا عن عمله البسيط وراتبه المتواضع. وعلى الرغم من تفانيه في وظيفته، إلا أنه لا يحظى سوى بالقليل من التقدير في قسمه. بل إن الموظّفين الأصغر سنّا يسخرون منه ويطلقون عنه النكات بسبب معطفه البالي والممزّق.
    لذا قرّر أكاكي ذات يوم الذهاب الى خيّاط يُدعى بتروفيتش لإصلاح معطفه وترقيع الثقوب فيه، ليجنّبه سخرية زملائه المستمرّة منه، وفي نفس الوقت ليحميه من شتاء سان بطرسبورغ القارس. لكن الخيّاط أخبر أكاكي أن المعطف الرثّ أصبح عصيّا على أيّ إصلاح واقترح عليه شراء معطف جديد. لكن المشكلة أن تكلفة معطف جديد تفوق راتبه الضئيل، لذا قرّر أن يعيش بميزانية محدودة جدّا لتوفير ما يكفي لشراء المعطف. ومع إضافة مبالغ رصيد اجازاته المتراكمة، استطاع أخيرا ادّخار ما يكفي من المال لشراء معطف جديد.
    في النهاية، يظفر أكاكي بالمعطف الجديد فيرتديه ويصبح حديث مكتبه في ذلك اليوم. ويقرّر رئيسه إقامة حفل تكريما للمعطف الجديد. لكن أكاكي الذي اعتاد الوحدة يشعر بأنه في غير مكانه. وفي طريق عودته إلى المنزل من الحفلة في وقت متأخّر من الليل، يعترض سبيله لصّان يتعاركان معه ويركلانه في بطنه ويسلبان معطفه بالقوّة ويهربان.
    وعندما يعلم زملاؤه بما حدث، يتعاطفون معه ويجمعون بعض المال لمساعدته. وينصح أحدهم أكاكي بأن يستعين بالمسئولين لكي يساعدوه في استعادة معطفه. ويتوجّه أوّلا إلى الشرطي المناوب ويخبره بالواقعة، فيدّعي أنه لم يلاحظ أيّ شيء غير طبيعي في تلك الليلة. ثم يلجأ إلى مفتّش الشرطة الذي يلوم أكاكي على تأخّره في العودة الى بيته ويحمّله المسئولية عن سرقة المعطف. وبعد عدّة محاولات أخرى، لم يتلقَّ أيّ مساعدة من السلطات لاستعادة معطفه المسلوب. وأخيرا، وبناءً على نصيحة زميل آخر، بدأ أكاكي البحث عن جنرال يُعرف بـ"الشخصية المهمّة" كي يساعده. وكان ذلك الشخص قد رُقّي إلى منصبه مؤخّرا وعُرف عنه تقليله من شأن مرؤوسيه والصراخ في وجوههم، لا لسبب سوى تضخيم نفسه أمامهم وتعزيز أهميّته الشخصية.
    وعندما يصل أكاكي الى مكتب الجنرال، يأمر بإبقائه منتظرا لساعات. وحين يؤذن له بالدخول، يسأله عن السبب الذي جعله يتجشّم عناء المجيء الى مكتبه ليتحدّث عن "قضيّة تافهة". وهنا يخبره أكاكي عن معاناته. وأثناء حديثه يذكر ملاحظة عابرة عن تقصير أمناء الشرطة الذين طلب مساعدتهم. وهنا يُستفزّ "الشخصية المهمّة" فيثور ويوبّخ أكاكي بقسوة ويسخر منه لعدم اتباعه الإجراءات البيروقراطية الصحيحة قبل مجيئه إليه.


    كان تقريع الجنرال لأكاكي وإهانته إيّاه شديدين لدرجة أنه كاد أن يُغمى عليه في مكتبه من شدّة الخوف. وبعد أن يطرده من مكتبه، يمرض أكاكي في بيته وتنتابه حمّى شديدة مع هذيان، ويتخيّل نفسه واقفا مرّة أخرى أمام الجنرال، متحدّثا عن معطفه. في بداية مرضه بالحمّى الخطيرة، كان أكاكي يتوسّل الى "الشخصية المهمّة" أن يهدّئ غضبه ويسامحه، لكن مع اقتراب موته أخذ يلعنه. واستمرّت معاناته مع الحمّى والهلاوس أيّاما إلى أن مات أخيرا.
    وبعد موته بأيّام، سرعان ما انتشرت في سان بطرسبورغ أنباء عن ظهور جثّة، عُرف أنها شبح أكاكي، تذرع الشوارع وتخطف معاطف المارّة. الشرطة التي تلقّت بلاغات كثيرة من الأهالي عن تلك الحوادث الغريبة وجدت صعوبة في القبض على الجثّة الشبح. "الشخصية المهمّة" الذي سبق أن أذلّ أكاكي في مكتبه بدأ يشعر بالذنب منذ وفاته لإساءته معاملته. وبينما كان في طريقه لرؤية امرأة ذات ليلة، واجهه الشبح وتعرّف عليه على أنه أكاكي. وتجاوز رعب الجنرال كلّ الحدود عندما رأى فم الجثّة الملتوي وشمّ في ملابسه الممزّقة رائحة القبر الكريهة. وعندما طالبه الشبح بمعطفه، قام بخلعه فورا ورماه في اتجاهه قبل أن يلوذ بالفرار مذعورا.
    للوهلة الأولى، تبدو قصّة "المعطف" بسيطة. فبطلها شخص "تافه وصغير"، ولذلك لا يلحظ وجوده أحد، كأنه لم يولد قط ولم يكن له وجود. وهو يطمح في خياطة معطف جديد. وبعد جهد جهيد يحقّق حلمه. لكن في الليلة الأولى يُسرق المعطف. وفي محاولته طلب المساعدة، يواجَه بلامبالاة الجميع، وأحيانا وحشيتهم وفظاظتهم. وكلّ هذا يُفضي به إلى نهاية مأساوية: الموت. لكن بعد وفاته، لا يجد ذلك الشخص البسيط والتعيس الراحة، فينهض من قبره ويتجوّل شبحه في أرجاء المدينة.
    في الواقع، أكاكي رجل طيّب وخيّر، لكنه لا يجد السعادة في هذه الحياة. وغوغول يقارن ببراعة ما بين عالمين: المتكبّرون وعديمو الرحمة من علية الناس والأثرياء. ومن جهة أخرى، المظلومون أصحاب القلوب النبيلة الذين لا يتدخّلون في شؤون أحد ولا يريدون إلا أن يعيشوا حياتهم بأقلّ قدر من الشروط والمتطلّبات.
    الرجل والمعطف في القصة وفي الحياة لا ينفصلان، المعطف يساوي حياة أكاكي، بل هو رهانه على حياته. وسرقة المعطف تصبح سرقة لحياته نفسها. وعبثية هذه المساواة بين المتاع والبشر، كما يرى غوغول، هي إشارة إلى نزع الصفة الإنسانية عن العالم. فالبطل لا يلفت انتباه زملائه إلا عندما يأتي إلى العمل مرتديا المعطف الجديد، وعندها فقط يدعونه لأوّل مرّة لقضاء وقت ممتع معهم. وعندما يُسرق، يتعاطفون معه ويجمعون المال لمساعدته. يبدو أن المعطف الجديد منحه شيئا من الكرامة والأهميّة.
    لا يمكننا إلقاء اللوم على "الشخصية المهمّة" في كلّ ما حدث، فهو لم يجعل أكاكي صغيرا وبلا قيمة، كما أنه لم يسرق معطفه. هو فقط رفض المساعدة في تحقيق العدالة. وقد رفض، ليس لأن ذلك سيضرّ بمصلحته، بل لأن القانون يسهّل تجاهل "الصغار والتافهين" كي يعرفوا مكانتهم. و"الشخص المهمّ" و"الرجل الصغير" هما تماما "حجر الأساس" في القصّة وفي الحياة، حيث لا يملك أيّ شخص مسكين أو فقير سوى أن يضرب رأسه في الجدار إذا ما حاول المطالبة بحقّه. والمشكلة لا تكمن في كون الجنرال شرّيرا وبيروقراطيا، بل في وجود جدار يحوّل البعض إلى "شخصيات مهمّة" والبعض الآخر إلى "بشر صغار".
    من جهة أخرى، تبدو "المعطف" قصّة بسيطة عن معاناة انسان عادي يستعيد كرامته الإنسانية، وينتقم من كلّ الإهانات والشتائم التي لحقت به في حياته، ويعاقب النظام الاجتماعي والسياسي الذي دمّر حياته ويهزمه في حياته الثانية الغامضة. وعند التعمّق في القصّة أكثر، سنرى فيها ملخّصا لوضع روسيا في أوائل القرن التاسع عشر ومثالا على قسوة النظام الإقطاعي وبنيته الاجتماعية والاقتصادية وكيف سحق الانسان الفرد.
    قصّة غوغول هي أكثر من مجرّد حكاية اجتماعية سياسية عن ضحيةٍ مظلوم يبحث عن العدالة. فهي تخاطبنا اليوم أيضا. وربّما نسأل أنفسنا: كيف نحاول أن نرتدي ملابسنا لمواجهة برد شتاء هذا العالم، أكان المعنى حرفيّا أم مجازيّا؟ كيف نتصرّف عندما تُنزع عنا أغطيتنا "شعورنا بالأمان والراحة"؟ ومتى يصبح السعي وراء الأشياء، حتى تلك الجيّدة والضرورية، نوعا من عبادة الأصنام؟ وهل يمكن أن يصبح تمسّكنا بها جزءا لا يتجزّأ منّا لدرجة أنه يستمرّ إلى ما بعد الموت؟!

    Credits
    fountainheadpress.com